ضد الحرب: أفكار حول المستقبل
(يمكن المصادقة والتوقيع على هذا النص عَبْرَ النموذج الموجود في آخر النص)
أربع ملاحظات/ أفكار تحيّةَ إجلال وإكبار للعزيمة الصادقة الجريئة لدى الآلافٌ المؤلّفة من المشاركين في الالتزام المدني في “المسيرة العالمية الثالثة من أجل السلام ونبذ العنف” التي ستنطلق من سان خوسيه في كوستاريكا في الثاني من شهر أكتوبر 2024، لتجوب أقطار العالم كافة، ثم تعود إلى نقطة الانطلاق في الخامس من شهر يناير 2025.
الفكرة الأولى: يجب ألا نتوقف قَط عن التحرك والعمل من أجل السلام ونبذ العنف، مؤكّدين مشددين على هدفنا الذي تختصره عبارة: “ضد الحرب”.
يجب ألّا يغيب عن بالنا، في الظروف الراهنة، أنّ العمل من أجل السلام، بدءاً من المستوى المحلي وصولاً إلى المستوى العالمي، عليه قبل كل شيء أن يكون ضد الحرب. إن التشديد على أولويّة “ضد الحرب” ضروري لكيلا يظنّ أحدٌ أنّ الفكرة الشائعة بأنّ الحرب هي شيء طبيعي لا يمكن تفاديه، هي فكرة صحيحة (أخلاقياً وسياسياً).
كل الناس يقولون إنهم مع السلام، ولكن كل الناس، حتى الذين هم خارج الجماعات الاجتماعية المسيطرة، لا يقولون إنهم ضد الحرب. لننظر مثلاً إلى القوى التقدمية: يجمعها السلام، وتفرّقها الحرب حيث نجد جماعة السلام، وجماعة الحرب، وجماعة الـ”بين بين”. إن السردية الأولى التي عليها أن نحاربها هي تلك التي تستغلّ الحرب كأداة في خدمة السلام، والتي منها تنطلق مقولات تُضفي شرعية على “الحرب العادلة” وبخاصة على “الحرب الدفاعية”. تعيش الولايات المتحدة حالة حرب دائمة، وذلك منذ أكثر من مائة سنة، وهي ليست حرباً هجومية على حدّ زعمها، وإنما هي حربٌ للدفاع عن مصالح عالَمِـ”ـها الحرّ، وعن مجنمعِـ”ـها” الليبرالي واقتصاد(ها) في كل مكان، كما تزعم أنّ نماذج هذا العالم والمجتمع والاقتصاد هي أفضل النماذج على الإطلاق. وليس من قبيل الصدفة أن تكون المقولة المفضلة لدى المسيطرين في كل العصور هي “إذا كنت تريد السلام، فاستعدّ للحرب“. وتلك مقولةٌ تعتمدها وتطبقها جميع الدول بلا تردد ومن دون تحفظ. انظروا إلى تجارة الأسلحة المزدهرة عالمياً والمشروعة دولياً. ومن هنا جاء استبدال تسمية الوزارة التي كانت سابقاً في جميع الدول تُسمّى “وزارة الحرب” بتسمية أخرى: “وزارة الدفاع”.
مفهوم “الحرب الدفاعية” بحاجة إلى تعديل. هذا المفهوم، الذي يبدو واضحاً بما لا يقبل الجدل، يرسّخ في المخيلة الشعبية فكرة خاطئة، أو فكرةً على الأقل شديدة الغموض، حول شرعية الأسلحة المتعاظمة القوة، بوصفها عامل “ردع” (انظر الطاقة النووية). لكنها، فوق ذلك، تحول الحرب إلى أداة للسلام، فتضفي بذلك شرعيةً على الحمَق والعبث والغباء.
منطق شرعية “الحرب الدفاعية” هذه تستخدمه حكومة نتنياهو الإسرائيلية في مواصلة إبادة الشعب الفلسطيني، فهذه الحكومة “تبرر” الإبادة الجماعية بذريعة “الدفاع المشروع عن النفس” رداً على الهجوم المسلّح الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في أكتوبر 2023. وهذه كذبة مضللة، فنوايا إسرائيل وخطتها للإبادة الجماعية ليست وليدة أكتوبر 2023، بل هي رسمياً جزءٌ لا يتجزّأ من جدول عمل حكّام إسرائيل الصهاينة، منذ إنشاء هذا الكيان في العام 1948. وتلك الخطة هي الأساس الذي قام عليها الغزو والاستعمار العسكري لأراضي الفلسطينيين، وقد أدانت قرارات الأمم المتحدة مراراً وتكراراً تلك الذريعة باعتبارها عملاً غير مشروع وغير قانوني. علاوة على ذلك، رفضت محكمة العدل الدولية وكذلك المحكمة الجنائية الدولية حجة إسرائيل تلك رفضاً باتّاً ومُحِقاً.
إذا هاجم شخصٌ مسلّحٌ بسكين أو بمسدس، شخصاً آخر، فليس من حق هذا الأخير أن يدافع عن نفسه فقط، بل إنّ هذا الدفاع عن النفس هو من واجبه الحيوي أيضاً. ينص القانون في هذا الشأن أيضًا على أنه لا يمكن لأحد أن “يحقق العدالة” بنفسه. علاوة على ذلك، من المحتّم، في عالم مؤسس على مبدأ “إذا كنت تريد السلام، استعد للحرب”، أن تكون هناك معاهدات تنظم الحرب، وتجارة الأسلحة، واتفاقيات عسكرية وأمنية المشتركة بين الدول/الحلفاء على أساس التزام كل دولة عضو بالتدخل العسكري “للدفاع” عن دولة عضو أخرى تتعرض لهجوم من قبل دولة ثالثة. وهذا ما وليس فيه ذرة واحدة من العدالة، ولا يمكن القبول به. ولكن هذه هي الطريقة التي منحت بها الولايات المتحدة نفسها شرعيةَ التدخّل في كل مكان في العالم “دفاعاً عن…” بفضل معاهدات التحالف الموقعة في جميع القارات.
في مقابل ذلك، وفي وضع يستلهم البحثَ عن السلام بصدقٍ وفعالية، يجب إلغاء معاهدات التحالف العسكري الدولية لأنها غير قانونية ولا يمكن القبول بها. ويجب استبدالها بمؤسسات تمتلك وسائل سياسية وقانونية قوية وملزمة لإلغاء وردع ومنع استخدام الأسلحة. إننا بحاجة إلى أمم متحدة جديدة وقوية، ومن دون مجلس الأمن الحالي. يجب على العمل ضد الحرب أن يُعلن أنّ الدول التي ترفض التوقيع على المعاهدات التي تحظر الأسلحة البكتريولوجية والأسلحة النووية وتجارة الأسلحة هي دول غير شرعية… وبهذه الروحية من العدالة، يجب علينا أن ندين الدول التي تزيد من إنفاقها العسكري ولا تُدخِل هذا الإنفاق ضمن حساب العجز المالي العام، في حيت أنها تُدخِل في هذا الحساب ما يُسمّى الإنفاق على الخدمات الاجتماعية العامة (وهي خدمات تتناقص باستمرار مقارنة بما تحتاجه العامة من خدمات). وهذا دليل آخر على عبثية الخيار الطاغي لدى الدول التي اختارت الحرب الدفاعية.
الفكرة الثانية: هي أنه يجب تعبئة الناس ليقفوا ضد الحرب بوضوح تام ويدركوا عدم الجدوى المطلقة من الحرب، وأنّ إصلاح الدمار الذي تسبّبه الحرب، غير ممكنة في عصرنا هذا، وبخاصة أرواح الناس التي تُزهَق في الحروب. ولذا، فإن الكفاح “ضد الحرب” يجب أن يهدف قبل كل شيء إلى أمرين مترابطين: إقرار الحق في الحياة لجميع البشر، وإقرار حقهم في الحصول على أسباب الحياة؛ هذان الهدفان نراهما اليوم منبوذَيْن محتقَرَيْن. يجب حماية ثروات العالم وتنمية الخيرات المادية والمعنوية العامة الضرورية للحياة والمشتركة بين جميع أبناء البشر.
لماذا نقول ذلك؟ لأنه يجب ألا ننسى أن الحرب تدمّر الحياة، وتدمّر بالتالي العيش المشترَك للبشرية جمعاء على سطح البسيطة. وعلاوة على ذلك، في هذا العصر الذي بدأ ينتشر فيه الوعي بالأنثروبوسين[1] وبعولمة ظروف الحياة وأمنها على كوكب الأرض، يجب أن نشدّد على واقعةٍ لا تحتاج إلى دليل، بأنّ الحرب، بحكم تعريفها، غير قادرة على توفير ولو نَزْرٍ ضئيل من العدالة. إن المنطق الذي تقوم عليه الحرب كما تتجلّى في أوضح صورها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، هو: “إنّ أمن وجودي وبقائي يعني عدم وجودك وزوالك”.
إعادة إعمار العالم بعد الحرب العالمية الثانية كانت ممكنة لأن الطبقات الحاكمة في ذلك الوقت أسست إعادة الإعمار على المبادئ والحقوق والقواعد المستمَدّة من رؤية للحياة نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وكما هو معلوم تعرّض هذا الإعلان لانتقادات مُحِقة لأنه تأثر إلى حد كبير بنهجٍ غربي قائم على مركزية الإنسان الغربي وعلى النظام الأبوي (البطريركي) في المجتمع والحياة. هذا النهج جرى تصحيحه جزئياً، بل جرى التخلي عنه، وذلك بفضل “الميثاق العالمي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” و”الميثاق العالمي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، و”إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الشعوب الأصلية في تقرير المصير والحكم الذاتي”، و”إعلان التنوع البيولوجي”… ومع ذلك فإنّ جملة هذه الإعلانات والمواثيق والاتفاقيات ما زالت حتى الآن تفشل في منع أسوأ الانتهاكات. ولقد آن الأوان لإعادة تحديد التوجهات الأساسية فيما يتعلق بالمستقبل المشترك الذي يجب أن نبنيه في العقود القادمة على أساسٍ من التعاون والوئام، من خلال تعزيز الإنجازات التي تحققت بفضل نضالات المواطنين.
أحد الإنجازات الكبرى التي يجب الحفاظ عليها وتعزيزها، يتمثل في المبدأ الذي للمرة الأولى يؤكده المجتمع الدولي، هو ضرورة الحفاظ الدائم على ركنين مجتمعيّين أساسيَّين، من أجل العيش معا على هذه الأرض. الركن الأول: مبدأ عالمية الحق في الحياة لجميع سكان وشعوب الأرض، من دون تمييز أو تهميش، والتشديد على المسؤولية المشتركة والمتكاملة للشعوب، ودولة القانون على نطاق عالمي، لضمان إحقاق هذه الحقوق وحمايتها وتعزيزها. وهذا أمرٌ يختلف جوهرياً عمّا يُسمّى “حكومة عالمية” الغامضة والعزيزة على قلوب الأوليغارشيات[2] المهيمنة. والركن الثاني هو الاعتراف بمبدأ وجود خيرات عامة ينتفع بها جميع البشر وضرورية لحياة جميع سكان الأرض، ويقع على عاتق جميع حكومات الدول “الوطنية” مسؤولية صونها ورعايتها وتنميتها في إطار التعاون والتضامن العالمي الوثيق.
هذان الركنان أتاحا للنظام العالمي أن يعمل ويتطور حتى الثمانينيات، على الرغم من حدوده وثغراته وتناقضاته وحروبه المحلية الكثيرة (للتخلّص من الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية) التي لم تصل إلى حدّ حرب عالمية ثالثة. والواقع أن العالم شهد انخفاضاً في نسبة اتّساع فجوة التفاوت بين البلدان الغنية والفقيرة، فأسهم ذلك في الحدّ من تأثير العوامل المولدة للصراعات البنيوية، وبالتالي الحروب المدمرة.
في أواخر الثمانينيات، انفجرت تناقضات النظام العالمي وبرزت ثغراته ونقاط ضعفه، بسبب عمليات عولمة الاقتصاد وتعدد جنسيات شركاته ومؤسسات تمويله وفق مبادئ اقتصاد السوق الرأسمالي وأهدافه وآلياته العنيفة. ونعني بذلك عمليات التسليع وتصنيع جميع أشكال وأعمال الحياة؛ ونعني به تحرير الأسواق والكفّ عن فرض أنظمة تقيّد الأنشطة الاقتصادية (تقليص دور الدولة، وتوسعة دور السوق)؛ ونعني به أيضاً خصخصة جميع السلع والخدمات الأساسية للحياة من خلال تسجيل براءات الاختراع الخاصة للكائنات الحية من أجل الربح (كالبذور الزراعية مثلاً، والكائنات المعدلة جينياً OGM، والأدوية، وما إلى ذلك)، والابتكارات التكنولوجية (المعدّات الجديدة، الطاقات الجديدة، تكنولوجيا المعلومات، الروبوتات، وكل ما يأتي به الذكاء الاصطناعي). وذلك كلّه يجري تحت بصر وسمع السلطات العامة، ويتمّ بموافقتها ودعمها السياسي والمالي، وبموافقة قسم كبير من القوى الاجتماعية التي تزعم أنها تقدمية.
لم تعد ملكية الموارد الأساسية للاقتصاد والتحكم في استخدامها من مسؤوليات الدول وواجباتها، بل وقعت في قبضة كيانات خاصة (شركات ومؤسسات وأسواق وبورصات) في الاقتصاد الرأسمالي. وكما هو معلوم، الهدف النهائي للنظام الرأسمالي ليس ضمان وتأمين حق العيش وحقوق الحياة، ولا الحفاظ على حالة البيئة الجيدة للأرض، بيتنا جميعاً. الهدف هو نمو القيمة المالية لرأس المال والثروات المالية ذات النفوذ والتأثير على الاقتصاد (stakeholders). كما أنّ الأسلوب الرئيسي لعمل النظام الرأسمالي ليس التعاون والتضامن، بل الافتراس والمنافسة الاحتكارية وتنافس الجميع ضد الجميع؛ فقد غدا الآخر هو العدو، وتحول السوق إلى ساحة صراع ينتصر فيها المصارعون الأقوى بعد القضاء على الآخرين، ويفوزون بحق الحياة الذي يمنحه لهم الإمبراطور (أي المال).
هكذا، نرى بوضوح، في ظل في هذه الظروف، سيطرة عوامل العنف والحرب البنيوية الدائمة. لقد بلغ التفاوت وانعدام المساواة حدوداً لا قِبَلَ للناس بها، فحرب الأغنياء ضد الفقراء لم تكن أبداً بهذا القدر من التجلّي والوضوح. وأخيراً وليس آخراً، يحدث أمام أعيُننا تدمير الحياة والإنسانية في شكله الأكثر بروزاً ووضوحاً، أي الإبادة الجماعية المتعمَّدة (وهذه سنتناولها في الملاحظة/ الفكرة الأخيرة).
الفكرة الثالثة: لأنّ التعبئة ضد الحرب تقتضي العمل في سبيل إعادة بناء الركنين المذكورَيْن على مستوى العالم، فإن التعبئة يجب أن تركّز جهودَها على هدفين اثنين: إلغاء براءات الاختراع لأغراض ربحِيّة خاصة؛ ومكافحة التمويل الجشع، بسنّ قوانين تمنعه.
ليس السعي لتحقيق هذين الهدفين عملاً سهلاً، لأن جميع الفئات والجماعات المسيطرة تدافع بعنف وبلا أي وازعٍ أخلاقي أو ضمير إنساني، عن براءات الاختراع الخاصة والتمويل المتوحّش، وفي مقدَّم هذه الجماعات تلك التي تسعى في الولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي) إلى التفوّق والسيطرة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعسكرية.
اليوم، في ظل الأزمة العميقة والحادّة التي تضرب نظام الحياة على الأرض، لا بدّ من اتّخاذ إجراءات عالمية تهدف إلى “نزع سلاح تكنولوجيا الاستيلاء على الحياة” (وتحديداً: براءات الاختراع)، وتهدف في الوقت نفسه، إلى “حظر التمويل الجشع المتوحّش” (المتمثّل في تحويل جميع أشكال الحياة إلى أصولٍ مالية).
ومن الواضح أن نزع سلاح تكنولوجيا الغزو والاستيلاء هذه، يبدأ بإلغاء براءات الاختراع الخاصة والربحية والتي يتمّ بموجبها تملّك الكائنات الحية والذكاء الاصطناعي، ويتطلّب حظر تجارة الأسلحة. لم تعد المسألة مجرد استخدام جيد أو سيّئ للعلوم والتقنيات التي هي في الأساس محايدة بطبيعتها، فالعلوم والتكنولوجيات لم تعد اليوم قوى خارجية عن البشر، بل أصبحت في صُلب بناء المجتمعات البشرية وتحدد غاياتها وأهدافها الملموسة.
يقتضي حظرُ التمويل المتوحش المفترس حظرَ التهرب الضريبي والملاذات الآمنة التي تلجأ إليها الثروات المالية الضخمة، بفرض نظام ضريبي عالمي لتحقيق العدالة العالمية الشاملة، وإلغاء استقلال أسواق الأوراق المالية (البورصات) التي أصبحت شركات عالمية خاصة ومعفيّة من أي رقابة للسلطات العامة.
من الوهم أن نعتقد بأنه يمكن بناء سلام ومجتمع لا يسوده العنف، من دون إلغاء براءات الاختراع الخاصة بالاستيلاء على الحياة وافتراسها، ومن دون حظر تراخيص تجارة الأسلحة. الإبقاء على الملاذات الضريبية، ومن دون القضاء على استقلال الأسواق المالية، ومن دون وضع ضوابط تنظم الأوليغارشيات الكبرى الساعية في حرب دائمة إلى فرض سيطرتها على العالَم.
ومن الوهم أيضاً أن نعتقد بأنه يمكن تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه في غضون سنوات قليلة ومن خلال عمل انفرادي وغير منظم تقوم به هذه أو تلك من منظمات المجتمع المدني “الكبيرة”، إن لم يكن هناك تعاون استراتيجي قويٌّ وفعّال بين هذه المنظمات والمقاومات المختلفة والمعارضة لعالم اليوم.
أما الفكرة الرابعة والأخيرة، فهي أننا اليوم، وبعد مرور ثمانين عاماً على الإبادة الجماعية لليهود، على يد ألمانيا النازية، نشاهد بأمّ العين كيف تتعرّض الإنسانية للدمار وتصبح فريسة العبث من خلال إبادة الفلسطينيين على يد دولة إسرائيل. ولا ننسَ أيضاً حروب الإبادة الأخرى للسكان في أربعة أقطار العالم، وبخاصة في أفريقيا وآسيا؛ لكن الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني هي الشكل الأسطع والأكثر بروزاً، اليوم، في حرب مرفوضة وعبثية تزعم أنها حرب دفاعية عادلة.
يجب الجهر بوضوح وبالصوت العالي أن الإبادة الجماعية للفلسطينيين ليست حرباً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي حربٌ تدميرية تستأصل الحياة، وعملٌ أحادي الجانب ومتعمّد، يجري على بعد آخر للحياة الإنسانية، غير ذلك البُعد المُعلَن بأن هدف الحرب “الأمن من أجل البقاء”! . وكما أن الإبادة الجماعية لليهود لم تُمليها مشكلة “أمن” الألمان، بل أمْلَتها رؤيةٌ عنصرية، عنفيّة، إقصائية لشعوب الإنسانية، وقمعية إلى حد كبير، كذلك فإن الإبادة الجماعية للفلسطينيين هي التعبير عن كل أشكال الوحشية المطلقة والتزمّت العقيدي المتحجّر (ذو الأصل الديني العنصري) وإنكار المساواة ونبذ الآخر.
إن مستقبل السلام الذي يتم تحقيقه في سياق الأوضاع الراهنة يشترط ظروفاً معيّنة ويخضع لمنطق متعدد، في المجالات كافّة، وبخاصة ما يتعلق منها بمفاهيم الحياة، والإنسانية، والمجتمع العالمي للحياة على هذا الكوكب.
إن الوقف الفوري للإبادة الجماعية، على نحو ما أمرت به محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، هو في الأساس مسألة لا تتعلق بالقانون الدولي، بل هو قبل كل شيء مسألة مسؤولية أخلاقية إنسانية وعالمية، وتقع على عاتق جميع بني الإنسان، وجميع المجتمعات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في العالم. ويجب على جميع أفراد هذه المجتمعات وسلطاتها أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من الدعوة إلى السلام، وأكثر من توجيه العرائض والالتماسات إلى السلطات السياسية للدول الكبرى والقوية.
أمام الحروب، تقضي الممارسات السائدة بأن نقف مع هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع. لكننا نرى نحن، أنه يجب علينا دائماً أن نقف “ضد الحرب” وأن نعمل على خلق الظروف اللازمة والتي لا غنى عنها، من أجل السلام. وأمامَ الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني اليوم، لا يسعنا إلا أن نقف ضدها، وإلى أقصى حدّ. الإبادة الجماعية هي إلغاء الحياة والعدالة إلغاءً مُبْرَماً. إبادة الفلسطينيين هي إبادة الإنسانية جمعاء، فإذا لم نعمل على وقفها، فإننا نُقِرّ، على نحوٍ أكثر من رمزي، بحق الدولة التي ارتكبت الإبادة الجماعية في أن تبيد الإنسانية والعدالة.
والحال، إنّ مستقبلاً من دون عدالة هو مستقبلٌ بلا سلام، ومستقبلٌ مُعادٍ للإنسانية. والحقّ، إنّ الآباء المؤسسين للجمهورية الإيطالية أحسنوا صنعاً عندما وضعوا المادة 11 من الدستور التي تنص على أن “إيطاليا ضدّ الحرب”.
خلاصة:
حتى عمالقة التكنولوجيات الحالية (كإمبراطورية إلون ماسك، مثلاً) و”أسياد العالَم الجدد” زعماء التكتلات الصناعية والمالية العالمية، سيكون مصيرهم الانهيار. والمهم في ذلك هو ألّا ننتظر إلى أن يحصل ذلك من تلقائه. ليست مايكروسوفت، ولا جوجل، وميتا، وأمازون، وبلاك روك، وفانغارد، وكريدي أجريكول، وبي إن بي، وكريدي سويس، ووالمارت، وباسف، وباير، وسنجنتا، وفايزر، وكوكا كولا، وإكسون، ونستله، ودانون. وشركة داو للكيماويات، وتشاينا بتروليوم، هي التي ستكون قادرة على منع وقوع “الحرب العالمية الثالثة”… ناهيك بـ X، وTesla، ورئيسها، أسواق الأوراق المالية في لندن ونيويورك وشيكاغو وشانغهاي وطوكيو… والمفوضية الأوروبية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والإدارة الأمريكية، وحكومات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وحكومة الاتحاد الروسي، والبنك المركزي الأوروبي المستقل.
من حقّ المواطنين الثوّار (ولا سيما النساء، والفلاحون، والسكان الأصليون، وأربعة مليارات شخص لا يتمتعون بتغطية طبية أساسية ولا يحصلون على مياه الشرب الآمنة، والمشردين، وملايين المهاجرين بحثاً عن “بلد مضيف”، والعمال، و..) أن يفرضوا بتضامنهم ذلك الانهيار. وفي هذا الصدد فإن السلطات الأخلاقية في هذا العالَم، كالمؤمنين حقاً بالتعاليم الدينية والأخلاقية مثلاً، يمكن أن تلعب دوراً مهمّاً، لا من حيث قوة التأثير فحسب، بل من حيث استخدام سلطتها في اتخاذ القرار أيضاً؛ فهؤلاء يمكن لهم أن يطرحوا حلولاً عدّة تقدّم دعماً واضحاً وصريحاً في هذا المجال.
من أجل توفير الظروف اللازمة والشروط الأساسية لبناء السلام، إليكُم بعض الحلول التي يمكن تحقيقها، في مجال الحياة، تُضاف إلى الحلول التي عرضناها في الصفحات السابقة، وتعززها، وتصون الحقوق ومنافع المشاعات المشتركة:
*رفض إمكانية الحصول على براءة اختراع تتيح تملّك الكائنات الحية على أساس خاص يهدف إلى الربح، وتتيح تملّك الذكاء الاصطناعي، لأن إمكانية الحصول على براءة اختراع تمنح سلطة اتخاذ القرار فيما يتعلق بالحياة إلى أشخاص ومؤسسات خاصة يحرّكها بشكل أساسي الجشع ونَهَمُ الربح والرغبة في السيطرة. ويجب إعادة المسؤولية الجماعية عن الحياة إلى المؤسسات الديمقراطية المشتركة والهيئات العامة على المستويين المحلي والعالمي.
* إنشاء مجلس مواطن عالمي لأمن المشاعات العالمية الضرورية لحياة الناس جميعاً، وبخاصة ما يتعلق منها بالمياه والغذاء والصحة، والتخلي عن الخصخصة والتمويل الجشع المفترس لهذه المنافع والخدمات الثلاث الرئيسية.
* في سياق يستلهم البحث الفعّال والصادق عن السلام، فلابد من الإعلان الصريح الواضح بأنّ ما يسمى بمعاهدات التحالف العسكري الدولي “الدفاعية” هي معاهدات غير قانونية ومرفوضة. ويجب استبدالها بمؤسسات عالمية، مجهزة بوسائل وأدوات سياسية وقانونية قوية وملزمة، لمنع استخدام الأسلحة وحظر هذا الاستخدام وإلغائه كلّياً. أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فهو النموذج الذي يجب التخلّص منه نهائياً.
* إنشاء مجلس اقتصادي عالمي للتعاون والتضامن والتبادل التجاري المستدام يحل محل منظمة التجارة العالمية، التي تفرض التعامل مع السلع والخدمات والعلاقات بين البشر وبينهم وبين الطبيعة، كما لو أنها سلع وأصول مالية. ويجب اعتبار استملاك أراضي الكوكب والاستيلاء على مياهه أعمالاً غير قانونية.
* حظر جميع الاستخدامات الزراعية والصناعية والخدماتية للمواد الكيميائية التي تسمم حياة التربة، وتؤدي إلى تدهور التنوع البيولوجي والقدرة البيولوجية لدى كوكبنا.
* إلغاء التهرب من دفع الضرائب، وإلغاء الملاذات الضريبية التي هي عبارة عن بسرقة الثروات الجماعية يسمح بها القانون ويجعلها تبدو أخلاقية في مجتمعاتنا.
* استعادة الطابع والوظائف العامة للنقود والعملات. إن خصخصة العملة والمالية العالمية هي، كما التكنولوجيا، إحدى أقوى الأدوات لتحريك الصراعات والحروب من أجل السلطة والسيطرة. ويجب على المجتمعات المحلية والوطنية والعالمية أن تستعيد سيطرتها المشتركة على المالية. كما يجب الإسراع في العمل على الحد من قدرة المدخرات والاستثمارات، التي تفوق قوتها قدرة الدول على السيطرة. زهي قوة باتت تمتلها البنوك الكبرى وصناديق الاستثمار وأسواق البورصة. ويتعيّن علينا أن نضع ميثاقاً للمواطنة العالمية بشأن البنوك وصناديق الاستثمار وأسواق البورصة، من أجل وضع خطة عالمية لإعادة التحويل المالي والأمن والسلام.
* * *
إن الكفاح “ضد الحرب” هو كفاح المنصفين المخلصين، وهو كفاحٌ أخلاقي من أجل إحقاق الحق وإرساء العدالة، نضال من أجل ريّ الأرض وتخضير الصحاري، وإعادة الأوكسجين إلى المحيطات، ومن أجل التآخي والصداقة، وهو باختصار: نضالٌ من أجل إعادة الحبّ والفرح إلى حياة الناس.
[1] مصطلح “anthropocène” يعني العصر الجيولوجي الجديد الذي يتميز بالأذى الفادح الذي يُلحِقه البشر، على نحوٍ غير مسبوق، بالنظام البيئي الطبيعي.
[2] الأوليغارشية oligarchie نظام حكم تكون فيه السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية